فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخطاب} هذه حكاية كلام أحد الخصمين، والأخوة هنا أخوة الدين، والنعجة في اللغة تقع على أثنى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن، وهي هنا عبارة عن المرأة، ومعنى أكفلنيها: أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي، وقيل: اجعلها كفلي أي نصيبي، ومعنى عزّني في الخطاب أي: غلبني في الكلام والمحاورة يقال: عز فلان فلانًا إذا غلبه، وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها. وقد اختلف الناس فيها أكثروا القول فيها قديمًا وحديثًا حتى قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدّث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حَدَّين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله، ونحن نذكر من ذلك ما هو اشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليه السلام: روي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضًا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها، وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام شيء من ذلك، فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته فسأله النزول عنها ففعل، وتزوّجها داود عليه السلام فولد له منها سليمان عليه السلام، وكان لداود تسع وتسعون امرأة، فبعث الله إليه ملائكة مثالًا لقصته، فقال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى أن ذلك الرجل لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة، فقال أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول عن امرأته فأجابه داود عليه السلام بقوله: لقد ظلمك بساؤل نعجتك إلى نعاجه، فقامت الحجة عليه بذلك، فتبسم الملكان عند ذلك وذهبا ولم يرهما، فشعر داود أن ذلك عتاب من الله على ما وقع فيه.
{فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} ولا تقتضي هذه القصة على هذه الراوية أن داود عليه السلام وقع فيما لا يجوز شرعًا، وإنما عوتب على أمر جائز، كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلوّ مرتبته ومتانة دينه، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ملا يعاتب عليه غيرهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأيضًا فإنه كان له تسع وتسعون امرأة، فكان غنيًا عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء، وإن كان جائزًا، وروُي هذه الخبر على وجه آخر، وهو أن داود انفرد يومًا في محرابه للتعبد، فدخل عليه طائر من كوه فوقع بين يديه فأعجبه، فمد يده ليأخه فطار على الكوه فصعد داود ليأخذه، فرأى من الكوة امراة تغتسل عريانة فأعجبته، ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده، وأنه خرج للجهاد مع الجند، فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت، وهو موضع قل ما تخلص أحد منه، فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيدًا، فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل، وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها، وقيل: إن داود همَّ بذلك كله ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك، ورُوي أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة، وروُي أيضًا أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} سؤال مصدر مضاف إلى المفعول، وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى الإضافة كأنه قال: بسؤال نعجتك مضافة إو مضمومة إلى نعاجه، فإن قيل: كيف قال له داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} قبل أن يثبت عنده ذلك؟ فالجواب أنه رُوي أن الآخر اعترف بذلك وحذف ذكر اعترافه اختصارًا، ويحتمل أن يكون قوله: لقد ظلمك على تقدير صحة قوله، وقد قيل: إن قوله لأحد الخصمين: لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر كانت خطيئته التي استغفر منها وأناب {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الخلطاء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} الخلطاء هم الشركاء في الأموال، ولكن الخلطة أعم من الشركة، ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها، وقصد داود بهذا الكلام الوعظ للخصم الذي بغى، والتسلية بالتأسي للخصم الذي بُغيَ عليه {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} ما زائدة للتأكيد.
{وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ظن هنا بمعنى شعر بالأمر، وقيل: بمعنى أيقن، وفتناه معناه اختبرناه {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} معنى خرَّ: ألقى بنفسه إلى الأرض، وإنما حقيقة ذلك في السجود، فقيل: إن الركوع هنا بمعنى السجود، وقيل: خرَّ من ركوعه ساجدًّا بعد أن ركع، ومعنى أناب: تاب، ورُوي أنه بقي ساجدًّا أربعين يومًا يبكي حتى نبت البقل من دموعه، وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك خلافًا للشافعي، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل يسجد عند قوله: {وَأَنَابَ} أو عند قوله: {لزلفى} {مَآبٍ} {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} الزلفى القُربة والمكانة الرفيعة، والمآب المرجع في الآخرة.
{يا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} تقديره قال الله يا داود، وخلافة داود بالنبوة والملك، قال ابن عطية: لا يقال خليفة الله إلا لنبيّ، وأما الملوك والخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وقول الناس فيهم خليفة الله تجوّز.
{وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} أي عبثًا بل خلقهما الله بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} المعنى أن الكفار لما أنكروا الحشر والجزاء كانت خلقة السموات والأرض عندهم باطلًا بغير الحمة، فإن الحكمة في ذلك إنما تظهر في الجزاء الأخروي.
{أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض} أم هنا استفهامية يراد بها الإنكار: أي أن الله لا يجعل المؤمنين والمتقين كالمفسدين والفجار، بل يجازي كل واحد بعلمه لتظهر حكمة الله في الجزاء، ففي ذلك استدلال على الحشر والجزاء، وفيه أيضًا وعد ووعيد.
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد} الصافنات جمع صافن، وهو الفرس الذي يرفع إحدى رجليه أو يديه ويقف على طرف الأخرى، وقيل: الصافن هو الذي يسوّي يديه، والصفن علامة على فراهة الفرس، والجياد السريعة الجري واختلف الناس في قصص هذه الآية، فقال الجمهور: إن سليمان عليه السلام عرضت عليه خيل كان ورثها عن أبيه وقيل: أخرجتها له الشياطين من البحر، وكانت ذوات أجنحة، وكانت ألف فرس، وقيل: أكثر فتشاغل بالنظر إليها حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشي العصر، فأسف لذلك، وقال: ردوا عليّ الخيل وطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف حتى عقرها؛ لما كانت سبب فوات الصلاة، ولم يترك منها إلا اليسير، فأبدله الله أسرع منها وهي الريح، وأنكر بعض العلماء هذه الرواية، وقال: تفويت الصلاة ذنب لا يفعله سليمان وعقر الخير لغير فائدة لا يجوز، فكيف يفعله سليمان عليه السلام؟ وأي ذنب للخيل في تفويت الصلاة فقال بعضهم: إنما عقرها ليأكلها الناس، وكان زمانهم زمان مجاعة فعقرها تقربًا إلى الله، وقال بعضهم، لم تفته الصلاة ولا عقر الخيل، بل كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار إليهم فأزالوها حتى دخلت اصطبلاتها فلما فرغ من صلاته قال ردّوها عليّ فطفق يمسح عليها بيده كرامة لها ومحبة، وقيل إن المسح عليها كان وسمًا في سوقها وأعناقها بسوم حبس في سبيل الله.
ِ {فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي} معنى هذا يختلف على حسب الاختلاف في القصة، فأما الذين قالوا إن سليمان عقر الخيل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة فاختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال: أحدها أن الخير هنا يراد به الخيل، وزعموا أن الخيل يقال لها خير، وأحببت بمعنى: آثرت أو بمعنى فعل يتعدى بمن قال: آثرت حب الخيل فشغلني عن ذكر ربي، والآخر: أن الخير هنا يراد به المال، لأن الخيل وغيرها مال فهو كقوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أي مالًا، والثالث: أن المفعول محذوف، وحب الخير مصدر والتقدير: أحببت هذه الخيل مثل حب الخير، فشغلني عن ذكر ربي، وأما الذين قالوا: كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها؛ فالمعنى أنه قال: إني أحببت حب الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، وشغلني ذلك عن النظر إلى الخيل {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذكرها، ولكنها تفهم من سياق الكلام وذكر العشي يقتضيها، والمعنى حتى غابت الشمس، وقيل: إن الضمير للخيل، ومعنى {تَوَارَتْ بالحجاب} دخلت اصطبلاتها والأول أشهر وأظهر.
{رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي قال سليمان: ردوا الخيل عليّ {فَطَفِقَ مَسْحًا بالسوق والأعناق} السوق جمع ساق يعني سوق الخيل، وأعناقهم: أي جعل يمسحها مسحًا، وهذا المسح يختلف على حسب الاختلاف المتقدم، هل هو قطعها وعقرها أو مسحها باليد محبة لها، أو وسمها للتحبيس.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} تفسير هذه الآية يختلف على حسب الاختلاف في قصتها، وفي ذلك أربعة أقوال: الأول أن سليمان كان له خاتم ملكه وكان فيه اسم الله، فكان ينزعه إذا دخل الخلاء توقيرًا لاسم الله تعالى، فنزعه يومًا ودفعه إلى جارية فتمثل لها جني في صورة سليمان وطلب منها الخاتم فدفعته له، وري أن اسمه صخر، فقعد على كرسيّ سليمان يأمر وينهي الناس يظنون أنه سليمان، وخرج سليمان فارًّا بنفسه فأصابه الجوع فطلب حوتًا ففتح بطنه فوجد فيه خاتمه، وكان الجني قد رماه في البحر فلبس سليمان الخاتم وعاد إلى ملكه، ففتنة سليمان على هذا هي ما جرى له من سلب ملكه، والجسد الذي ألقي على كرسيه هو الجنيّ الذي قعد عليه وسماه جسدًا، لأنه تصور في صورة إنسان، ومعنى أناب رجع إلى الله بالاستغفار والدعاء، أو رجع إلى ملكه والقول الثاني أن سليمان كان له امرأة يحبها وكان أبوها ملكًا كافرًا قد قتله سليمان فسألته أن يضع لها صورة أبيها فأطاعها في ذلك فكانت تسجد للصورة ويسجد معها جواريها، وصار صنمًا معبودًا في داره، وسليمان لا يعلم حتى مضت أربعون يومًا، فلما علم به كسره فالفتنة على هذا عمل الصورة، والجسد هو الصورة والقول الثالث أن سليمان كان له ولد وكان يحبه حبًا شديدًا، فقالت الجن إن عاش هذا الولد ورث ملك أبيه فبقينا في السخرة أبدًا فلم يشعر إلا وولده ميت على كرسيه، فالفتنة على هذا حبه الولد، والجسد هو الولد لما مات وسمي جسدًا لأنه جسد بلا روح، والقول الرابع أنه قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فلما تحمل إلا واحدة بشق إنسان فالفتنة على هذا كونه لم يقل إن شاء الله، والجسد هو شق الإنسان الذي ولد له، فأما القول الأول فضعيف من طريق النقل مع أنه يبعد ما ذكر فيه من سلب ملك سليمان وتسليط الشياطين عليه، وأما القول الثاني فضعيف أيضًا مع أنه يبعد أن يعبد صنم في بيت نبي، أو يأمر نبي بعمل صنم، وأما القول الثالث فضعيف أيضًا، وأما القول الرابع فقد روي في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يذكر في الحديث إن ذلك تفسير الآية.
{قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي} قدم الاستغفار على طلب الملك، لأن أمور الدين كانت عندهم أهم من الدنيا فقدّم الأولى والاهمّ، فإن قيل: لأي شيء قال لا ينبغي لأحد من بعدي، وظاهر هذا طلب الانفراد به حتى قال فيه الحجاج أنه كان حسودًا؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه إنما قال ذلك لئلا يجري عليه مثل ما جرى من أخذ الجني لملكه، فقصد أن لا يسلب ملكه عنه في حياته ويصير إلى غيره، والآخر أنه طلب ذلك ليكون معجزة، دلالة على نبوته {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} معنى رخاء لينة طيبة، وقيل: طائعة، له، وقد ذكرنا الجميع بين هذا وبين قوله: {عَاصِفَةً} في [الأنبياء: 81] وحيث أصاب: أي حيث قصد وأراد {والشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} الشياطين معطوف على الريح، وكل بناء يدل على الشياطين أي سخرنا له الريح والشياطين من يبني منهم ومن يغوص في البحر {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} أي آخرين من الجنّ موثقون في القيود والأغلال {هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ} الإشارة إلى الملك الذي أعطاه الله له، والمعنى أن الله قال له: أعط من شئت وامنع من شئت، وقيل: المعنى أمنن على من شئت من الجنّ بالاطلاق من القيود، وأمسك من شئت منهم في القيود، والأوّل أحسن وهو قول ابن عباس {بِغَيْرِ حِسَابٍ} يحتمل ثلاثة معان: أحدها أنه لا يحاسب في الآخرة على ما فعل، والآخر بغير تضييق عليك في الملك، والثالث بغير حساب ولا عدد بل خارج عن الحصر {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} قد ذكر في قصة داود.
{واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} قد ذكرنا قصة أيوب عليه السلام في [الأنبياء: 83] والنصب يقال بضم النون وإسكان الصاد: وبفتح النون وإسكان الصاد وبضم النون والصاد وبفتحهما، ومعناه واحد وهو المشقة، فإن قيل: لم نسب ما أصابه من البلاء إلى الشيطان؟ فالجواب من أربعة أوجه: أحدها أن سبب ذلك كان من الشيطان، فإنه رُوِيَ أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرًا فلم يغيره، وقيل: إنه كانت له شاة فذبحها وطبخها، وكان له جار جائع فلم يعط جاره منها شيئًا، والثاني: أنه أراد ما وسو له الشيطان في مرضه من الجزع وكراهة البلاء، فدعا إلى الله أن يدفع عنه وسوسة الشيطان بذلك، والثالث: أنه روي أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه فأهلك ماله فصبر وأهلك أولاده فصبر وأصابه المرض الشديد فصبر فنسب ذلك إلى الشيطان لتسليط الشيطان عليه، والرابع: روي أن الشيطان لقي امرأته فقال لها: قولي لزوجك إن سجد لي سجدة أذهبت ما به من المرض فذكرت المرأة ذلك لأيوب، فقال لها: ذلك عدوّ الله الشيطان وحينئذ دعا.
{اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} التقدير قلنا له: اركض برجلك فضرب الأرض برجله فنبعت له عين ماء صافية باردة، فشرب منها فذهب كل مرض كان داخل جسده، واغتسل منها فذهب ما كان في ظاهر جسده، وروي أنه ركض الأرض مرتين فنبع له عينان، فشرب من أحدهما واغتسل من الأخرى.
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} ذكر في الأنبياء {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} الضغث القبضة من القضبان، وكان أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط إذا برئ من مرضه، وكان سبب ذلك ما ذكرته له من لقاء الشيطان، وقوله لها إن سجد لي زوجك أذهبت ما به من المرض، فأمره أن يأخذ ضغثًا فيه مائة قضيب فيضربها بها ضربة واحدة فيبرَّ في يمينه، وقد ورد مثل هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم في حدّ رجل زنى وكان مريضًا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيه شماريخ مائة فضرب به ضربة واحدة ذكر ذلك أبو داود والنسائي، وأخذ به بعض العلماء، ولم يأخذ به مالك ولا أصحابه. اهـ.

.قال النسفي:

{ص} ذكر هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه كأنه قال: {والقرءآن ذِى الذكر} أي ذي الشرف إنه لكلام معجز، ويجوز أن يكون {ص} خبر مبتدأ محذوف على أنه اسم للسورة كأنه قال: هذه ص أي هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر كما تقول: هذا حاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت ب {ص والقرءان ذِى الذكر} إنه لمعجز.
ثم قال: {بَلِ الذين كَفَرُواْ في عِزَّةٍ} تكبر عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق {وَشِقَاقٍ} خلاف لله ولرسوله.
والتنكير في {عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} للدلالة على شدتهما وتفاقمهما.
وقريء {فِى غرة} أي في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق {كَمْ أَهْلَكْنَا} وعيد لذوي العزة والشقاق {مِن قَبْلِهِمُ} من قبل قومك {مِّن قَرْنٍ} من أمة {فَنَادَوْاْ} فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب {وَّلاَتَ} هي لا المشبهة ب ليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتوكيد، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضييها إما الاسم أو الخبر وامتنع بروزهما جميعًا وهذا مذهب الخليل وسيبويه، وعند الأخفش أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان.